2021: رواية ” لا أتنفس” عن دار فضاءات بالأردن

فتحتُ النافذة، كان الهواء ما يزال ملوثًا، مختنقًا، مرعبًا. أغلقتُها بسرعة، فقد بدأت أستنشقه مرًّا، مُخيفًا. رجعتُ إلى السرير، ليس هناك حياة خارج البيت. السماء رمادية، والبحر داكنٌ، ضاعت رائحته، ولونه ما عاد أزرقَ. قيل إنّ السفينة القادمة من هناك، أفرغت قمامتها واختفتْ. هل غرقت؟ هل أخذت طريقًا نحو قارة أخرى؟ لا أحد يجرؤ على نطق اسم السفينة. ضاعت في غوغل. إنْ بحثت عنها، تجد غيرها كثيرًا إلا السفينة التي قذفت قمامتها، ولم يهتز العالم. البحر داكنٌ، لم يعد يُرى وإن كنت بالقربِ منه. الألوان عين الشمس. خرجتُ من غرفة النوم، أصطدم بصمتٍ يُكسره مواء قطة منذ تكسرت رجلها اليمنى، استقرت تحت النافذة، ويظلّ مواؤها يخترق الصمت مثل لحنٍ حزينٍ يُجبرك على البكاء وإن كنت من قساة القلوب. مواء القطط تختلط فيه آهات الألم بصوت الحزن. صوتٍ داكنٍ قاهرٍ للفرحة المحتملة. ليس هناك حياة داخل البيت. هل ألم القطة يُشبه ألمي؟ هل ألم الإنسان شبيه بألم الحيوان؟ هل القطة تحزن مثلي؟ نعم، تتألم وإلا ما سمعتُ مواءَها منذ تكسرت رجلها عندما صدمتها سيارة؟ كيف لها أن تحزن وهي لا ترى إلا اللون الداكن. أنا يُزعجني البحر وقد صار داكنا. لأنَّ الأزرق مات، أو لأنهم قتلوا الأزرق، فأنا يقهرني الداكن. لولا الأزرق ما قهرني الداكن. ذاكرتنا سبب حزننا. لنفترض أني لا أحمل ذاكرة للألوان. البحر داكنٌ. داكنٌ وكفى. فكيف سأحزن للأزرق؟ القطة لا ترى الأزرق، والداكن يشبه الأسود، تموء إذن ألمًا وليس حزنًا. الحزن حالة خاصة بالإنسان، كما القهر استثناء للإنسان. أفتح باب الشقة، يستقبلني صمت العمارة الآيلة للسقوط في رمشة عين. شجرة الحظّ وحدها حالت دون سقوط العمارة، واستوائها ملحًا للأرض بعد أنْ لوثها الغاز السام. يتذكر شجرة طفولته. هي هنا منذ طفولته، ظلّت تحتفظ بحجمها، ولم تهدّها الرياح والعواصف. هي تكبره بكثير، ربما تكبر حتى والده الذي توفي في حرب المجاعة، خرج يطلب رغيفًا لأطفاله الصغار، ولم يعد يومها. قيل إنّه قُتِل وهو عائدٌ بعد أن حصل على كيس من ستّ رغائف، قيل إنّ تجار الحرب نصبوا له كمينًا، خطفوا الكيس ورموا بالرجل في شاحنة القتلى، قيل إنّ والده عاد بالرغيف، ابتسم الصغار، وعادت الفرحة إلى الأم وهي ترى أبناءها يشبعون، وإنْ جاعت هي. أنْ يشبعوا وكفى. ثم مات بعد أنْ حلّ قدره. قيل إنه اختُطِف ذات صباحٍ وهو ذاهبٌ إلى عمله بعد رحيل الحرب، وعودة الحياة، وقيل إنّه كان ينتمي إلى جماعة تتلقى الأوامر، والصغار بدؤوا يكبرون والرجل بات يخشى على أبنائه، فبدأ يفكر في الخروج، وقبل أن يفكر، تمّ اختطافه، ولم تعرف زوجته مصيره. ماتت الأم حسرة بعد سنتين، وكبر الصغار الثلاثة، جرف الانفجار اثنين منهما، وبقي الثالث يُزاول مهنة الصيد.
هل عاد يومها الصياد إلى المدينة؟
كيف تكون مدينة بنساء غير مبصرات؟”.